وضعت أمتعتي في غرفة الفندق الأوروبي و ارتديت ملابسي الرياضية ثم توجهت إلى النادي الصحي لأجري بعض التمارين. كان بجانبي نزيل أمريكي يكبرني بالسن بل كان
عجوزاً بالنسبة لي . تجاذبنا بعض الأحاديث ووجدنا العديد
من الاهتمامات المشتركة فكان الحوار ممتعاً .
قبل أن أنصرف دعاني لمرافقته في رحلة بحرية في الغد فاعتذرت لارتباطي بمواعيد
العمل التي جئت من أجلها. اقترح علي أن نتناول العشاء سوياً في مطعم
متميز لكنني كنت مرتبطاً كذلك بعشاء عمل لاستغل الأيام الثلاثة
التي سأمضيها في إنهاء كافة أعمالي .
كنت أصادفه أحيانا خلال دخولي أو خـــــــروجي من الفندق
فأرى منه ابتسامة ذات مغزى لكني لم أعلم ماذا يقصد بها؟
في آخر يوم لي وأنا أنهي إجراءات المغادرة لمحته يجلس
في صالة الفندق ويشير إلي.
اتجهت إليه فدعاني إلى شرب كوب من الشاي ،وكان لدي متسع من
الوقت فلبيت طلبه وبادرته : ما سر الابتسامة التي تواجهني
بها كلما تلاقينا؟ .. تبسم وقال: إنني كلما رأيتك تذكرت
نفسي حينما كنت شاباً، فقد أمضيت أجمل وأغلى
سنوات عمري في تنمية أعمالي التجارية
كما تفعل أنت الآن ، وبعد أن كبرت
وانتهيت إلى ماترى وجدت أنني
فقدت الكثير مما لا يمكن
تعويضه وخرجت
بدرس ثمين
يمكنك أن
تسميه
(حكمة الشايب) .
كان الأمر مشوقا لي فبادرته قائلاً : وما هذه الحكمة؟
فأجاب: إن الرجل يمر في حياته بثلاث مراحل ويحتاج إلى أن يملك ثلاثة أشياء .
ففي الشباب يكون لديك الوقت لقلة انشغالك ولديك النشاط والقوة
لتستمتع ولكن ليس لديك المال الكافي لتسافر وتشتري
السيارة والمنزل الذي تتمناه و ترفه
عن نفسك بعيش رغيد .
ثم إنك تنتقل إلى مرحلة الرجولة فتزاول العمل والتجارة وتبدأ
بجمع المال لتؤمن مستقبلاً أفضل لك ولأسرتك ، حينها يكون
لديك المال ولديك النشاط والقوة ولكن ليس لديك الوقت
لتستمتع وترفه عن نفسك وأسرتك فأنت مشغول
بأعمالك وسفرياتك وتجد أنك تضحي بأشياء
كثيرة من أجل (ضمان المستقبل) .
وفي المرحلة الثالثة حين تكبر سنك تكون قد
جمعت المال الذي تريد ولديك الوقت
لتستمتع به وتحقق ما كنت
تحلم به ولكن ......
ستجد أنك قد فقدت الصحة والنشاط الذي كنت تتمتع بهما
أيام الشباب ،فلم يعد لديك الجهد للسفر ولا تجد
نفس المتعة في شراء سيارة فخمة أو منزل
كبير ! وتبحث عن أبنائك وبناتك لتستمتع
معهم في رحلات وجلسات وزيارات
فتجدهم قد كبروا ولم يعد يهمهم
أن يشاركوك في مثل هذه
الأنشطة فقد صار لكل
منهم اهتماماته
وعالمه !
بل وقد لا تجد
زملاء تلتقي بهم
لأنك قد قطعتهم حين
إنشغلت بأعمالك التجارية .
ستجد أن هذا المال لن يعيد لك تلك الأيام التي كان أبناؤك يتمنون
أن تمضي معهم ولو ساعة واحدة أو أن تذهب بهم إلى رحلة
أو سفر إلى بلد قريب ! ستجد أن المال لن يعيد لك صحتك
بعد أن داهمك الضغط والسكري فلم تعد
ذاك اليافع القوي !!
لذلك فقد استنتجت من تجربتي في الحياة ، وهو ما أوصيك به
يا بني، أن بضعة آلاف من الريالات وأنت في شبابك
تستمتع بها مع أبنائك وزوجك وتقنع بما لديك
خير لك من مئات الآلاف بل
والملايين حينما تكون
كهلاَ مثلي!
قرأت هذه القصة في عامود الكاتب المعروف داوود الشريــان في
صحيفة الحياة منذ عدة سنوات وهو يرويها عن زميل له ، ولكنها
بقيت راسخة في ذاكرتي استرجعـــــها كلما شاهــدت أولئك الذين
يلهثون خلف الدنيا من أجل المال بشكل مبــالغ فيه ، هم لم يكتفوا
بتضييع أجمل أوقاتهم و ذروة نشاطهم بل أهمــلوا أسرهم ونسوا
أقرباءهم وقصروا في واجباتهم. ومنهم من غامــر بمستقبل أسرته
فباع بيته وعقاره ومدخراته واستدان من البنوك من أجل مغامرات
تجارية قد تنتهي به مديونا مدى الحياة ،هــــذا إن سلم من السجن .
بيد أن الطامة الكبرى هي أن يكون الاندفاع وراء المال
والطمع فيه سببا في إهمال العبادات والوقوع
في معاملات محرمة ، حينها سيخسرون كل
شيء ولن يعرفوا ذلك إلا بعد فوات الأوان
، والسعيد من اتعظ بغيره ! فإن
خسرت مالا أو صفقة فتذكر
دوما أنها وسيلة
وليست غاية !